لعشرات السنين، لاحظ الأطباء حالات العلاج التلقائي من السرطان. هذه العلاجات المفاجئة والدرامية نُسبت تارةً إلى السحر والروحانيات أو حتى المعجزة. في الواقع كان الجهاز المناعي يطلق العنان لأسلحته في ظروف غامضة.
أما الآن، فتوصل العلماء إلى كيفية تكرار هذه المعجزة عبر أدوية جديدة، لا يعرف المرضى -ولا حتى أطباؤهم- أنها موجودة.
“الأمر يشبه وضع حجرٍ خلف دواسة المكابح الخاصة بالخلايا المناعية”، هكذا يصف الباحث جايمس أليسون علاجه الجديد لمرض السرطان.
بسبب هذا الاكتشاف، حصل أليسون وزميله تاسكو هونجو على جائزة نوبل بالطب في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وُصف اكتشافهما بأنه “ثورة في علاج السرطان“، خاصة أنَّهما غيَّرا رؤية الطب تجاه سبل معالجة السرطان من الأساس.
عازف الهارمونيكا تمكّن من هزيمة السرطان
جايمس أليسون JAMES ALLISON طبيب من تكساس، وعازف هارمونيكا في أوقات فراغه. لكنه في ساعات عمله يحقق تطوراتٍ عظيمة في مجال العلاج المناعي للسرطان.
أدى اكتشافه إلى نتائج مذهلة لمرضى السرطان، وقدَّم اتجاهاً جذرياً جديداً لأبحاث السرطان.
ومع ذلك، فالكثير من مرضى السرطان وحتى بعض الأطباء لم يسمعوا عن العلاج المناعي للسرطان، أو يرفضون تصديقه.
وأولئك الذين سمعوا عنه يعانون لفهم القائمة الجديدة من خيارات العلاج، وتمييز الآمال المعقولة من تلك المُبالغ فيها.
ويوضح الدكتور دانيال تشين، الاختصاصي في علم الأورام والباحث بجامعة ستانفورد: “ظهر العلاج المناعي للسرطان وتطور بوتيرةٍ سريعة، ومن الصعب على العلماء، فضلاً عن الأطباء والمرضى، متابعة كل تلك التطورات”.
ساعد تشين في نقل بعض الاكتشافات الجديدة من المختبرات إلى المستشفيات والعيادات.
ويضيف لصحيفة The Guardian البريطانية: “لا تزال الموجة الهائلة من البيانات تعلمنا مفاهيم أساسية حول تفاعل الجهاز المناعي البشري مع السرطان”.
وهو أيضاً يقدم لنا أساليب مهمة جديدة لعلاج السرطان وربما الشفاء منه نهائياً. “لذا، يجب نشر هذه البيانات في أسرع وقت ممكن”.
واكتشافه الجديد سيمكّن العالم من التخلي عن العلاج التقليدي
التقديرات تشير إلى أنَّ 40% من البشر تقريباً سيُصابون بالسرطان خلال حياتهم.
وحتى وقتٍ قريب جداً، لم يكن متاحاً سوى 3 خيارات أساسية للتعامل مع المرض، حسب International Cancer institute:
- عرف البشر الجراحة مدة 3 آلاف عامٍ على الأقل.
- ثم ظهر العلاج الإشعاعي عام 1896.
- وفي عام 1946، أدت الأبحاث الكيميائية في مجال الحرب إلى استخدام مشتق غاز الخردل لتسميم الخلايا السرطانية، وعليه ظهر العلاج الكيماوي.
- وفي الآونة الأخيرة، بدأ الطب أيضاً في تسميم السرطان، من خلال أدويةٍ تحاول تجويع الخلايا السرطانية وحرمانها من إمدادات الغذاء والدم.
هذه الطرق التقليدية فعالة فقط في نحو نصف الحالات. ولذا فهي إنجازٌ طبي جدير بالثناء، لكنَّه يُغفل النصف الآخر من مرضى السرطان.
إذ يطلق العنان للخلايا التائية المقاتلة
وفقاً للوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، تسبب السرطانفي نحو 9 ملايين حالة وفاة حول العالم في عام 2018 وحده.
يتولى الجهاز المناعي دور المدافع من الأمراض، ويؤدي دوراً ممتازاً يتمثل في تمييز ما لا ينتمي إلى الجسد ثم مهاجمته، إلا عندما يتعلق الأمر بالسرطان.
وطيلة 100 عام، ظلت أسباب هذا الفشل الواضح طي الغموض.
ثم أتى اكتشاف جايمس أليسون ليوضح أنَّ الجهاز المناعي لم يكن يتجاهل السرطان، وفي الحقيقة يستغل السرطان بعض الحيل لإيقاف الجهاز المناعي.
لكن، ماذا إن كان بإمكانك التصدي لتلك الحيل وإطلاق الخلايا التائية القاتلة في الجهاز المناعي ضد هذا المرض؟
فيراوغ السرطان ويفعّل الجهاز المناعي ضده
اكتشف مختبر علم المناعة الخاص بدكتور أليسون في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، أنَّ الحيلة تتضمن بروتيناً ضمن الخلية التائية يُسمى CTLA-4.
عند تنشيط الخلايا، يعمل البروتين على قطع الاستجابة المناعية.
وتلك البروتينات المثبطات، التي يُطلِق عليها أليسون “الحواجز”، تُسيطر على الخلايا التائية القاتلة لئلا تقضي على خلايا الجسم السليمة.
لكنَّ السرطان يستفيد من تلك المثبطات من أجل البقاء والنمو.
في عام 1994، طور المختبر جسماً مضاداً تمكن من تعطيل عمل بروتين CTLA-4.
وشرح دكتور ماكس كرومل، وهو اختصاصي مناعة عمل مع أليسون على البروتين: “الأمر تقريباً يشبه وضع حجرٍ خلف دواسة المكابح الخاصة بالخلايا التائية”.
عندما حقنوه في فأرٍ مصاب بالسرطان، استهدف الجسم المضاد بروتين CTLA-4 المثبط، وحال دون توقف هجوم إطلاق الخلايا التائية.
وفي المقابل، دمرت الخلايا التائية الخلايا السرطانية وعالجت المرض.
فاز العالمان بجائزة نوبل بسبب هذا الاكتشاف، الذي تعارض مع ما درسه كل طبيب ممارس عن السرطان وكيفية محاربته.
ويقول كرومل إنَّ الأمر استغرق 15 سنة قبل أن يتمكنوا أخيراً من معرفة ما إذا كان يمكن تجربة الأمر على البشر بعد نجاحه مع الفئران.
لكن دواء أليسون تسبّب في حالات تسمم خطيرة
لكن، تبين لاحقاً أنَّ تعطيل مثبطات الجهاز المناعي يتسبب في حالات تسمم خطيرة لبعض المرضى.
وقال جِد وولتشوك، اختصاصي العلاج المناعي للسرطان وأحد الباحثين الأساسيين بالتجارب السريرية للدواء المضاد لبروتين CTLA-4: “تعلمنا سريعاً أنَّ العلاج المناعي له تكلفته، لكنَّنا كنا نشهد أيضاً بعض الأمور الرائعة”.
وبالنسبة لبعض مرضى أورام الميلانوما النقيلية الذين خضعوا للدراسة، تمكن العقار بالفعل من شفائهم من السرطان.
حتى أولئك الذين كانوا قد بلغوا المرحلة الرابعة من المرض وكانوا على بُعد أيامٍ من دخول رعاية المحتضِرين.
وأردف وولتشوك: “تلك لحظة خالدة لا يمكنك أن تنساها أبداً. حتى تلك اللحظة لم يكن لدينا علاجٌ مُجدٍ لأورام الميلانوما النقيلية”.
وفي عام 2011، حصل الدواء المضاد لبروتين CTLA-4 على الاعتماد تحت اسم إبيليميوماب Ipilimumab (واسمه التجاري ييرفوي Yervoy) لاستخدامه كعلاجٍ من الميلانوما.
ومن ثم، اعتُمد لعلاج سرطان الكلى والقولون والمستقيم. وتمكن ذلك العقار من إنقاذ أرواح آلافٍ من الأشخاص.
إلا أن دواء هونجو تمكن من حل المشكلة
لكن كدليلٍ على صحة الفكرة، أثبت نجاح دواء إبيميليوماب أنَّه في الواقع يمكن تسليح الجهاز المناعي وتحفيزه ضد السرطان.
وأدى هذا إلى انطلاق دراساتٍ للبحث عن حواجز مناعية جديدة.
كانت أول نقطة تلك الحواجز أمام رد الفعل المناعي هي بروتين PD-1، الذي اكتشفه دكتور تاسوكو هونجو Tasuku Honjo من جامعة كيوتو؛ الفائز الثاني بجائزة نوبل.
يُعد PD-1 نوعاً من المصافحة السرية بين خلايا الجسم والخلايا التائية، وكأنَّما تقول الخلايا السليمة لها: “أنا واحدة منكم، لا تهاجموني”.
استغلت الخلايا السرطانية تلك المصافحة السرية، وخدعت الخلايا التائية وجعلتها تصدق أنَّها خلايا طبيعية وصحية.
فهو يقتل الخلايا السرطانية دون آثار جانبية
لكن يمكن إعاقة تلك المصافحة، ومن ثم خلق آلية لقتل السرطان أكثر دقة، وآثارها الجانبية السامة أقل خطورة من الناتجة عن تعطيل بروتين CTLA-4.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2015، استُخدم الجيل الثاني من مثبطات حواجز المناعة (التي يُطلق عليها anti-PD-1 أو anti-PD-L1، اعتماداً على ما إذا كانت تعوق دور الخلايا التائية أو دور الخلايا السرطانية في أثناء عملية المصافحة)، لإطلاق النظام المناعي للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر.
أراد الأطباء القضاء على سرطانٍ عدواني خبيث أصاب كبده ودماغه، وفق مجلة Scientific American.
وأثارت معجزة شفاء الرئيس السابق، البالغ من العمر 91 عاماً، دهشة الجميع، وضمنهم كارتر نفسه.
بالنسبة للكثير من الأشخاص، كان “دواء جيمي كارتر”، وهو دواء بمبروليزوماب Pembrolizumab، الذي اعتُمد العام الماضي (2017)، وبيع بالاسم التجاري “كيترودا-Keytruda”.
يستهدف الدواء دور الخلايا التائية في المصافحة، وكان العلاج المناعي الأول والوحيد للسرطان الذي سمعوا عنه.
يُعد “كيترودا” حالياً واحداً من الأدوية الأكثر استخداماً على نطاقٍ واسع من بين العلاجات الجديدة.
واعتُمد لعلاج 9 أنواع مختلفة من السرطان بأميركا، وعددٍ أقل منها في بريطانيا.
وتنمو قائمة السرطانات التي يمكن علاجها بوتيرةٍ سريعة، وإلى جانبها قائمة الاختصارات لعشراتٍ من الحواجز الجديدة التي تخضع للاختبار حالياً.
إذ ما يزال الجهاز المناعي النظام البيئي الغامض لجسم الإنسان. ونحن بالكاد بدأنا نسبر أغوار ذلك النظام.
بنسلين السرطان علاج مناعي يخدع المرض
ينظر الباحثون مثل تشين وغيره إلى الأمر باعتباره لحظةً مشابهة لاكتشاف البنسلين.
خفّض دواء البنسلين معدلات الإصابة، وعالج بعض الأمراض البكتيرية، وأنقذ ملايين الأرواح.
لكن باعتباره اكتشافاً علمياً، فقد أعاد تعريف ما هو ممكن، وفتح حدوداً جديدة خصبة لأجيال من الباحثين.
وبعد نحو 100 عام من اكتشاف ذلك الدواء البسيط، أصبحت المضادات الحيوية فئةً كاملة من الأدوية، لدرجة أنَّنا أصبحنا نعتبرها من المسلّمات.
أما الأمراض المرعبة التي عذبت البشرية وسممتها آلاف السنين، فأصبحت بسهولة تنسحق في أي صيدلية كبرى.
ويقول تشين: “اكتشفنا للتو مثبطات حواجز النظام المناعي، وهنا يكمن الاكتشاف، إذ توصلنا للتو إلى ما يضاهي البنسلين”.
والآن هناك نحو 1000 دواء مشابه
بعد مرور 7 سنوات من اعتماد أول مثبط لتلك الحواجز، تفيد التقارير بوجود 940 دواءً “جديداً” من أدوية العلاج المناعي للسرطان تخضع للاختبار على أكثر من نصف مليون مريض بالسرطان.
يوجد حالياً أكثر من 3 آلاف تجربة سريرية، وأكثر من 1000 دواء آخر في مرحلة ما قبل الدراسات السريرية.
وتلك الأرقام تبدو منخفضةً مقارنةً بعدد المحاولات التي تختبر توليفات العلاجات المناعية أو تستخدمها مع العلاج الكيماوي أو الإشعاعي، الذي يحول بدوره في الأساس الورم الميت إلى لقاحٍ للسرطان، حسبما يُشير أليسون.
ويأمل الباحثون أن يتمكن النظام المناعي من إتمام ما شرع العلاج الكيماوي فيه بفاعلية بمساعدة مثبطات حواجز النظام المناعي.
وهناك عددٌ هائل من التجارب الجارية، لدرجة استحالة حصر مراحلها أو نتائجها، لكن جديرٌ بالذكر أنَّ العديد منها يحقق نتائج إيجابية.
من بينها علاج مناعي نجح نسبياً في علاج سرطان الثدي
الجمعية الأوروبية لطب الأورام ESMO أعلنت مؤخراً، عن أول نجاح مبدئي لعلاجٍ مناعي يستهدف سرطان الثدي ثلاثي السلبية.
وهو مرض خبيث بشكل مروع يصيب الشابات في الأساس، ويقاوم بعنادٍ خيارات العلاج السابقة.
مثبطات حواجز النظام المناعي ليست العلاج المناعي الوحيد للسرطان.
فهناك العديد من التجارب السريرية حالياً تتضمن لقاحات مصممة لتستهدف السرطان الخاص بمريضٍ معين.
وهناك تقنية واعدة أخرى، تُعرف باسم نقل الخلايا بالتبني adoptive cell transfer، تعمل على تلقيح جيشٍ مستنسخ من الخلايا التائية المُستخلَصة، ثم إعادة حقن المريض بها لمطاردة الخلايا السرطانية.
وهناك أيضاً تقنية تسمى العلاج بالخلايا التائية الخيمرية CAR-T، تعيد هندسة الخلية التائية القاتلة لدى المريض وتحولها إلى نوعٍ من الخلايا الهجينة القاتلة للسرطان.
فينتج عنها دواء قوي مذهل حي قادر على محاربة السرطان ومواكبة تطوره مدى الحياة.
وقضت تقنية الخلايا التائية الخيمرية بالفعل على أنواع معينةٍ من سرطان الدم لدى الأطفال.
وتلك أشياء ليس بإمكان أدوية السرطان البسيطة تحقيقها.
وهناك حالات شُفيت تماماً ولكن..
يقول دكتور أكسل هووس، الاختصاصي بعلم الأورام والطبيب العالمي السابق والرائد في برنامج العلاج المناعي للأورام بشركة Bristol-Myers Squibb: “أصبح الآن بإمكاننا استخدام كلمة شفاء في علم الأورام. لم يعد خيالاً أو وعداً صعباً يتعذر الوفاء به”.
ويضيف: “نحن لا نعلم بعد من هم المرضى المحظوظون الذين سيُشفَون، لكنَّنا رأينا بالفعل حالاتٍ تُشفَى من السرطان”.
يمكن أن تكون الضجة المثارة حول العلاج خطيرةً، تماماً مثلماً يحمل الأمل الزائف الكثير من القسوة.
وهناك ميلٌ طبيعي إلى تعليق الكثير من الآمال على أي علمٍ جديد، لا سيما إن كان يعِد بقلب الطاولة على مرضٍ مسَّ حياة الجميع بطريقةٍ ما، ومع ذلك يجب توخي بعض الحذر.
ففي الوقت الحالي، هناك القليل من العلاجات المناعية المتاحة.
إذ يتجاوب معظم المرضى بشكلٍ جزئي أو لا يتجاوبون نهائياً، والبعض أحياناً يطورون مقاومةً للمرض.
لكنَّ الأقلية من مرضى السرطان الذين استجابوا لتلك الأدوية لا تقتصر مدة شفائهم على أسابيع أو شهور، وإنَّما طيلة الحياة.
ويقول تشين: “تتجلي القيمة الفريدة لنهج العلاج المناعي للسرطان في مثل تلك الاستجابات الجذرية الدائمة”. لكن من المهم ملاحظة أنَّ إمكانات العلاج لا تضمن بعدُ تحقق أي نتائج لأي مريض.
العلاج يكلف أكثر من مليون دولار!
لكن العلاج المناعي مكلف، فهناك حالات التسمم التي تحدث عندما يُطلق العنان للخلايا التائية.
وهناك أيضاً “التسمم الاقتصادي” الخاص بعلاجات السرطان المصممة لمرضى بعينهم، والتي تمنح الشفاء الأبدي، لكنَّها تتكلف أكثر من مليون دولار.
ويتمثل الشاغل الثالث، لا سيما في القطاعات الريفية أو التي تعاني نقص الخدمات، في الوصول إلى الأدوية والمعلومات والخضوع لتجارب الأدوية.
هي متاحة، ولكن يحتاج المرضى والأطباء أن يُسمَح لهم بطرح الأسئلة وفهم خياراتهم.
ويؤكد العديد من الأطباء أنَّ الهدف من العلاج إذا لم يكن الشفاء ممكناً هو أن يتماسك المريض حتى الاكتشاف التالي.
وعندما يظهر اكتشافٌ ما، يجب على المرضى والأطباء أن يكونوا على استعداد لفهمه.
ويقول تشين: “بعد كل شيء، لا يوجد ما هو عديم الفائدة أكثر من اكتشافاتٍ علاجية للسرطان لا يعرف الناس بشأنها”.
للاطلاع أكثر على الموضوع، يمكن شراء كتاب The Breakthrough. وهو “قراءة مثيرة” عن الاكتشافات الحائزة جائزة نوبل عام 2018، ونقطة تحوّل في علاقتنا مع مرض أعجز الأطباءَ فترة طويلة للغاية.
تعليقات
إرسال تعليق